فصل: سئل عن الرجل يكتري أرضا للزرع فتصيبه آفة فيهلك‏ فهل فيه جائحة‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وسئل ـ رحمه الله ـ عن الرجل يكتري أرضا للزرع، فتصيبه آفة، فيهلك‏.‏ فهل فيه جائحة‏؟‏ أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما إذا اكتري أرضًا للزرع، فأصابته آفة‏.‏ فهذه ‏[‏مسألة وضع الجوائح في الثمر‏]‏ ، فإن اشتري ثمرًا قد بدا صلاحه، فأصابته جائحة أتلفته قبل كمال صلاحه، فإنه يتلف من ضمان البائع عند فقهاء المدينة؛ كمالك، وغيره‏.‏ وفقهاء الحديث كأحمد وغيره‏.‏ وهو قول معلق للشافعي؛ فإن الشافعي علق القول بصحة الحديث‏.‏ والحديث قد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏/ ‏(‏إذا بعت من أخيك ثمرة، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا‏.‏ بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق‏؟‏‏)‏‏.‏

والاعتبار يؤيد هذا القول، فإن المبيع تلف قبل تمكن المشتري من قبضه، فأشبه ما لو تلفت منافع العين المؤجرة قبل التمكن من استيفائها‏.‏ فإذا قيل‏:‏ هذه الثمرة تلفت بعد القبض قبل قبض الثمرة التي لم يكمل صلاحها من جنس قبض المنافع؛ فإن المقصود إنما هو جذاذها بعد كمال الصلاح؛ ولهذا إذا شرع المشتري في قبضها بعد كمال الصلاح، كانت من ضمانه‏.‏

وقد تنازع الفقهاء‏:‏ هل يجوز له أن يبيعها قبل الجذاذ‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن أحمد‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يجوز؛ لأنه بيع للمبيع قبل قبضه؛ إذ لو كانت مقبوضة لكانت من ضمانه‏.‏

والثاني‏:‏ يجوز بيعها، وهو الصحيح؛ لأنه قبضها القبض المبيح للتصرف، وإن لم يقبضها القبض الناقل للضمان كقبض العين المؤجرة، فإنه إذا قبضها، جاز له التصرف في المنافع، وإن كانت إذا تلفت، تكون من ضمان المؤجر؛ لكن تنازع الفقهاء‏:‏ هل له أن يؤجرها بأكثر مما استأجرها به‏؟‏ على ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد‏.‏ /قيل‏:‏ يجوز؛ كقول الشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجوز؛ كقول أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأنه ربح فيما لم يضمن؛ لأن المنافع لم يضمنها‏.‏ وقيل‏:‏ إن أحدث فيها عمارة جاز،وإلا فلا‏.‏ والأول أصح؛ لأنها مضمونة عليه بالقبض، بمعني أنه إذا لم يستوفها، تلفت من ضمانه، لا من ضمان المؤجر، كما لو تلف الثمر بعد بدو صلاحه، والتمكن من جذاذه؛ ولكن إذا تلفت العين المؤجرة، كانت المنافع تالفة من ضمان المؤجر؛ لأن المستأجر لم يتمكن من استيفائها، فيفرق بين ما قبل التمكن وبعده‏.‏

 فصل

وأما إذا استأجر أرضا للازدراع، فأصابتها آفة، فإذا تلف الزرع بعد تمكن المستأجر من أخذه، مثل أن يكون في البيدر، فيسرقه اللص، أو يؤخر حصاده عن الوقت حتي يتلف‏.‏ فهنا يجب على المستأجر الأجرة‏.‏

وأما إذا كانت الآفة مانعة من الزرع، فهنا لا أجرة عليه بلا نزاع‏.‏

وأما إذا نبت الزرع، ولكن الآفة منعته من تمام صلاحه،مثل /نار أو ريح أو برد،أو غير ذلك، مما يفسده، بحيث لو كان هناك زرع غيره لأتلفته‏.‏ فهنا فيه قولان‏:‏

أظهرهما‏:‏ أن يكون من ضمان المؤجر؛ لأن هذه الآفة أتلفت المنفعة المقصودة بالعقد؛ لأن المقصود بالعقد المنفعة التي يثبت بها الزرع حتي يتمكن من حصاده، فإذا حصل للأرض ما يمنع هذه المنفعة مطلقا، بطل المقصود بالعقد قبل التمكن من استيفائه‏.‏

ومثل هذا لو كانت الأرض سبخة فتلف الزرع، أو كانت إلى جانب بحر، أو نهر، فأتلف الماء تلك الأرض، قبل كمال الزرع، ونحو ذلك‏.‏ ففي هذه الصور كلها تتلف من ضمان المؤجر‏.‏ وليس على المستأجر أجرة ما تعطل الانتفاع به‏.‏ كما لو ماتت الدابة المستأجرة، أو انقطع الماء، ولم يمكن الانتفاع بها في شيء من المنفعة المقصودة بالعقد، وأمثال هذه الصور‏.‏ وليس هذا مثل أن يسرق ماله، أو يحترق من الدار؛ فإن المنفعة المقصودة بالعقد لم تتغير، فإنه يمكن أن ينتفع بها هو وغيره؛ بأن يحفظها من اللص أو الحريق‏.‏

ونظير ذلك أن يتلف المال الذي اكتري الدابة لحمله؛ فإن الأجرة عليه؛ بخلاف ما إذا كانت الآفة مانعة من الانتفاع مطلقا له ولغيره؛ فإن هذا بمنزلة موت الدابة، واحتراق الدار المؤجرة‏.‏ ونظير سرقة /متاعه من الدار‏:‏ أن يسرق سارق زرعه‏.‏ وأما إذا جاء جيش عام، فأفسد الزرع، فهذه آفة سماوية؛ فإن هذا لا يمكن تضمينه؛ ولا الاحتراز منه‏.‏ ونظيره أن يجيء جيش عام فيخرج الناس من مساكنهم التي يسكنونها‏.‏

 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما‏.‏

فصل

في ‏[‏وضع الجوائح‏]‏ في المبايعات والضمانات والمؤاجرات مما تمس الحاجة اليه‏.‏ وذلك داخل في ‏[‏قاعدة تلف المقصود المعقود عليه قبل التمكن من قبضه‏]‏ ‏.‏

/قال الله تعالى في كتابه‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏29‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إلى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏188‏]‏ ، وقال تعالى ـ فيما ذم به بني إسرائيل‏:‏ ‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155ـ161‏]‏ ‏.‏

ومن أكل أموال الناس بالباطل أخذ أحد العوضين بدون تسليم العوض الآخر؛ لأن المقصود بالعهود والعقود المالية هو التقابض، فكل من العاقدين يطلب من الآخر تسليم ما عقد عليه؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏ ، أي تتعاهدون، وتتعاقدون، وهذا هو موجب العقود ومقتضاها؛ لأن كلا من المتعاقدين أوجب على نفسه بالعقد ما طلبه الآخر، وسأله منه‏.‏

فالعقود موجبة للقبوض، والقبوض هي المسؤولة المقصودة المطلوبة؛ ولهذا تتم العقود بالتقابض من الطرفين، حتي لو أسلم الكافران بعد التقابض في العقود التي يعتقدون صحتها، أو تحاكما الينا، لم نتعرض لذلك؛ لانقضاء العقود بموجباتها؛ ولهذا نهي عن بيع الكالئ بالكالئ؛ لأنه عقد وإيجاب على النفوس، بلا حصول مقصود لأحد الطرفين ولا لهما؛ ولهذا حرم الله الميسر الذي منه بيع الغرر‏.‏ومن الغرر ما يمكنه قبضه،/ وعدم قبضه؛ كالدواب الشاردة؛ لأن مقصود العقد ـ وهو القبض ـ غير مقدور عليه‏.‏

ولهذا تنازع العلماء في ‏[‏بيع الدين على الغير‏]‏ ، وفيه عن أحمد روايتان، وإن كان المشهور عند أصحابه منعه‏.‏

وبهذا وقع التعليل في بيع الثمار قبل بدو صلاحها، كما في الصحيحين عن أنس بن مالك‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع الثمار حتي تزهي قيل‏:‏ وما تزهي‏؟‏ قال‏:‏ حتي تحمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه‏؟‏‏!‏‏)‏‏.‏ وفي لفظ أنه‏:‏ نهي عن بيع الثمرة حتي يبدو صلاحها، وعن النخل حتي يزهو قيل‏:‏ وما يزهو‏؟‏ قال‏:‏ يحمار ويصفار‏.‏ وفي لفظ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع الثمر حتي تزهو فقلت لأنس‏:‏ ما زهوها‏؟‏ قال‏:‏ تحمر وتصفر، أرأيت إن منع الله الثمر، بم تستحل مال أخيك‏؟‏‏.‏ وهذه ألفاظ البخاري‏.‏ وعند مسلم‏:‏ نهي عن بيع ثمر النخل حتي يزهو، وعنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن لم يثمرها الله فبم يستحل أحدكم مال أخيه‏؟‏‏)‏ قال أبو مسعود الدمشقي‏:‏ جعل مالك والدراوردي قول أنس‏:‏ أرأيت إن منع الله الثمرة ـ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ أدرجاه فيه، ويرون أنه غلط‏.‏/وفيما قاله أبو مسعود نظر‏.‏

وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين، ليس فيه نزاع، وهو من الأحكام التي يجب اتفاق الأمم والملل فيها في الجملة؛ فإن مبني ذلك على العدل والقسط الذي تقوم به السماء والأرض، وبه أنزل اللّه الكتب، وأرسل الرسل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏

وذلك أن المعاوضة كالمبايعة، والمؤاجرة مبناها على المعادلة‏.‏ والمساواة من الجانبين، لم يبذل أحدهما ما بذله إلا ليحصل له ما طلبه‏.‏ فكل منهما آخذ معط، طالب مطلوب‏.‏ فإذا تلف المقصود بالعقد المعقود عليه قبل التمكن من قبضه ـ مثل تلف العين المؤجرة، قبل التمكن من قبضها، وتلف ما بيع بكيل، أو وزن قبل تمييزه بذلك، وإقباضه ونحو ذلك ـ لم يجب على المؤجر أو المشتري أداء الأجرة أو الثمن‏.‏

ثم إن كان التلف على وجه لا يمكن ضمانه ـ وهو التلف بأمر سماوي ـ بطل العقد، ووجب رد الثمن إلى المشتري إن كان قبض منه، وبرئ منه، إن لم يكن قبض‏.‏ وإن كان على وجه يمكن فيه الضمان، وهو أن يتلفه آدمي يمكن تضمينه، فللمشتري الفسخ لأجل تلفه قبل التمكن من قبضه، وله الإمضاء لإمكان مطالبة المتلف‏.‏ فإن /فسخ كانت مطالبة المتلف للبائع، وكان للمشتري مطالبة البائع بالثمن إن كان قبضه، وإن لم يفسخ، كان عليه الثمن، وله مطالبة المتلف؛ لكن المتلف لا يطالب إلا بالبدل الواجب بالإتلاف، والمشتري لا يطالب إلا بالمسمي الواجب بالعقد‏.‏

ولهذا قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم‏:‏ إن المتلف إما أن يكون هو البائع، أو المشتري، أو ثالثا، أو يكون بأمر سماوي، فإن كان هو المشتري، فإتلافه كقبضه يستقر به العوض‏.‏ وإن كان بأمر سماوي انفسخ العقد‏.‏ وإن كان ثالثا، فالمشتري بالخيار‏.‏ وإن كان المتلف هو البائع فأشهر الوجهين أنه كإتلاف الأجنبي‏.‏ والثاني أنه كالتلف السماوي‏.‏

وهذا الأصل مستقر في جميع المعاوضات، إذا تلف المعقود عليه قبل التمكن من القبض تلفا لا ضمان فيه، انفسخ العقد، وإن كان فيه الضمان، كان في العقد الخيار‏.‏ وكذلك سائر الوجوه التي يتعذر فيها حصول المقصود بالعقد من غير إياس؛ مثل أن يغصب المبيع أو المستأجر غاصب، أو يفلس البائع بالثمن، أو يتعذر فيها ما تستحقه الزوجة من النفقة، والمتعة، والقسم، أو ما يستحقه الزوج من المتعة ونحوها، ولا ينتقض هذا بموت أحد الزوجين؛ لأن ذلك تمام العقد ونهايته، ولا بالطلاق قبل الدخول؛ لأن نفس حصول الصلة بين الزوجين، أحد مقصودي العقد؛ ولهذا ثبتت به حرمة المصاهرة في غير الربيبة‏.‏

/

 فصل

والأصل في أن تلف المبيع والمستأجر قبل التمكن من قبضه ينفسخ به العقد‏:‏ من السنة‏:‏ ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق‏؟‏‏)‏ وفي رواية أخري‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح‏.‏

فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أنه إذا باع ثمرًا، فأصابته جائحة فلا يحل له أن يأخذ منه شيئًا‏.‏ ثم بين سبب ذلك وعلته فقال‏:‏ ‏(‏بم تأخذ مال أخيك بغير حق‏؟‏‏)‏ وهذا دلالة على ما ذكره الله في كتابه من تحريم أكل المال بالباطل، وأنه إذا تلف المبيع قبل التمكن من قبضه كان أخذ شيء من الثمن أخذ ماله بغير حق؛ بل بالباطل، وقد حرم الله أكل المال بالباطل؛ لأنه من الظلم المخالف للقسط الذي تقوم به السماء والأرض‏.‏ وهذا الحديث أصل في هذا الباب‏.‏

/والعلماء وإن تنازعوا في حكم هذا الحديث ـ كما سنذكره، واتفقوا على أن تلف المبيع قبل التمكن من القبض يبطل العقد، ويحرم أخذ الثمن ـ فلست أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا صريحا في هذه القاعدة وهي‏:‏ ‏[‏أن تلف المبيع قبل التمكن من القبض يبطل العقد‏]‏ غير هذا الحديث‏.‏

وهذا له نظائر متعددة، قد ينص النبي صلى الله عليه وسلم نصا يوجب قاعدة، ويخفي النص على بعض العلماء حتي يوافقوا غيرهم على بعض أحكام تلك القاعدة، ويتنازعوا فيما لم يبلغهم فيه النص، مثل اتفاقهم على المضاربة، ومنازعتهم في المساقاة، والمزارعة‏.‏ وهما ثابتان بالنص، والمضاربة ليس فيها نص، وإنما فيها عمل الصحابة ـ رضي الله عنهم‏.‏

ولهذا كان فقهاء الحديث يؤصلون أصلا بالنص، ويفرعون عليه ـ لا ينازعون في الأصل المنصوص، ويوافقون فيما لا نص فيه ـ ويتولد من ذلك ظهور الحكم المجمع عليه؛ لهيبة الاتفاق في القلوب، وأنه ليس لأحد خلافه‏.‏

وتوقف بعض الناس في الحكم المنصوص‏.‏ وقد يكون حكمه أقوي من المتفق عليه‏.‏ وإن خفي مدركه على بعض العلماء،فليس ذلك بمانع /من قوته في نفس الأمر،حتي يقطع به من ظهر له مدركه‏.‏

ووضع الجوائح من هذا الباب، فإنها ثابتة بالنص، وبالعمل القديم الذي لم يعلم فيه مخالف من الصحابة والتابعين، وبالقياس الجلي والقواعد المقررة؛ بل عند التأمل الصحيح ليس في العلماء من يخالف هذا الحديث على التحقيق‏.‏

وذلك أن القول به هو مذهب أهل المدينة قديمًا، وحديثًا، وعليه العمل عندهم، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمن مالك وغيره، وهو مشهور عن علمائهم؛ كالقاسم بن محمد، ويحيي بن سعيد القاضي، ومالك وأصحابه، وهو مذهب فقهاء الحديث؛ كالإمام أحمد وأصحابه، وأبي عبيد، والشافعي في قوله القديم‏.‏ وأما في القول الجديد، فإنه علق القول به على ثبوته؛ لأنه لم يعلم صحته، فقال ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت لم أعده، ولو كنت قائلا بوضعها لوضعتها في القليل والكثير‏.‏

فقد أخبر أنه إنما لم يجزم به؛ لأنه لم يعلم صحته‏.‏ وعلق القول به على ثبوته، فقال‏:‏ لو ثبت لم أعده‏.‏ والحديث ثابت عند أهل الحديث لم يقدح فيه أحد من علماء الحديث؛ بل صححوه، ورووه في الصحاح والسنن، رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه والإمام أحمد‏.‏ فظهر وجوب القول به /على أصل الشافعي أصلا‏.‏

وأما أبو حنيفة، فإنه لا يتصور الخلاف معه في هذا الأصل على الحقيقة؛ لأن من أصله‏:‏ أنه لا يفرق بين ما قبل بدو الصلاح وبعده، ومطلق العقد عنده وجوب القطع في الحال‏.‏ ولو شرط التبقية بعد بدو الصلاح، لم يصح عنده؛ بناء على ما رآه من أن العقد موجب التقابض في الحال، فلا يجوز تأخيره؛ لأنه شرط يخالف مقتضي العقد، فإذا تلف الثمر عنده بعد البيع والتخلية، فقد تلف بعد وجوب قطعه، كما لو تلف عند غيره بعد كمال صلاحه‏.‏ وطرد أصله في الإجارة، فعنده لا يملك المنافع فيها إلا بالقبض شيئًا فشيئًا، لا تملك بمجرد العقد وقبض العين؛ ولهذا يفسخها بالموت وغيره‏.‏

ومعلوم أن الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متواترة في التفريق بين ما بعد بدو الصلاح، وقبل بدوه، كما عليه جماهير العلماء، حيث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتي يبدو صلاحها، وذلك ثابت في الصحاح من حديث ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وأبي هريرة‏.‏ فلو كان أبو حنيفة ممن يقول ببيع الثمار بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح، ظهر النزاع معه‏.‏

والذين ينازعون في وضع الجوائح لا ينازعون في أن المبيع إذا /تلف قبل التمكن من القبض، يكون من ضمان البائع؛ بل الشافعي أشد الناس في ذلك قولا؛ فإنه يقول‏:‏ إذا تلف قبل القبض، كان من ضمان البائع في كل مبيع، ويطرد ذلك في غير البيع‏.‏ وأبو حنيفة يقول به في كل منقول‏.‏ ومالك وأحمد القائلان بوضع الجوائح يفرقان بين ما أمكن قبضه كالعين الحاضرة، وما لم يمكن قبضه؛ لما روي البخاري من رواية الزهري عن سالم عن ابن عمر قال‏:‏ مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حبًا مجموعًا فهو من مال المشتري‏.‏

وأما النزاع في أن تلف الثمر قبل كمال صلاحه تلف قبل التمكن من القبض أم لا‏؟‏ فإنهم يقولون‏:‏ هذا تلف بعد قبضه؛ لأن قبضه حصل بالتخلية بين المشتري وبينه؛ فإن هذا قبض العقار وما يتصل به بالاتفاق؛ ولأن المشتري يجوز تصرفه فيه بالبيع وغيره، وجواز التصرف يدل على حصول القبض؛ لأن التصرف في المبيع قبل القبض لا يجوز، فهذا سر قولهم‏.‏

وقد احتجوا بظاهر من أحاديث معتضدين بها؛ مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال‏:‏ أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تصدقوا عليه‏)‏، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه‏:‏ ‏(‏خذوا ما /وجدتم وليس لكم إلا ذلك‏)‏ ومثل ما روي في الصحيحين أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إن ابني اشتري ثمرة من فلان، فأذهبتها الجائحة، فسأله أن يضع عنه، فتالي ألا يفعل‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تالي ألا يفعل خيرا‏)‏‏.‏

ولا دلالة في واحد من الحديثين‏.‏

أما الأول‏:‏ فكلام مجمل، فإنه حكي أن رجلا اشتري ثمارًا، فكثرت ديونه، فيمكن أن السعر كان رخيصا، فكثر دينه لذلك‏.‏ ويحتمل أنها تلفت أو بعضها بعد كمال الصلاح أو حوزها إلى الجرين، أو إلى البيت، أو السوق‏.‏ ويحتمل أن يكون هذا قبل نهيه أن تباع الثمار قبل بدو صلاحها‏.‏ ولو فرض أن هذا كان مخالفا لكان منوسخا؛ لأنه باق على حكم الأصل، وذاك ناقل عنه، وفيه سنة جديدة، فلو خولفت لوقع التغيير مرتين‏.‏

وأما الحديث الثاني‏:‏ فليس فيه إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تالي ألا يفعل خيرًا‏)‏ والخير قد يكون واجبا، وقد يكون مستحبا، ولم يحكم عليه؛ لعدم مطالبة الخصم، وحضور البينة، أو الإقرار، ولعل التلف كان بعد كمال الصلاح‏.‏

وقد اعترض بعضهم على حديث الجوائح بأنه محمول على بيع الثمر قبل بدو صلاحه، كما في حديث أنس‏.‏ وهذا باطل لعدة أوجه‏:‏

/أحدها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة‏)‏ والبيع المطلق لا ينصرف إلا إلى البيع الصحيح‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أطلق بيع الثمرة، ولم يقل قبل بدو صلاحا‏.‏ فأما تقييده ببيعها قبل بدو صلاحها، فلا وجه له‏.‏

الثالث‏:‏ أنه قيد ذلك بحال الجائحة، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، لا يجب فيه ثمن بحال‏.‏

الرابع‏:‏ أن المقبوض بالعقد الفاسد مضمون، فلو كان الثمر على الشجر مقبوضا، لوجب أن يكون مضمونا على المشتري في العقد الفاسد‏.‏ وهذا الوجه يوجب أن يحتج بحديث أنس على وضع الجوائح في البيع الصحيح، كما توضع في البيع الفاسد؛ لأن ما ضمن في الصحيح ضمن في الفاسد، وما لا يضمن في الصحيح، لا يضمن في الفاسد‏.‏

وأما قولهم‏:‏ إنه تلف بعد القبض، فممنوع، بل نقول‏:‏ ذلك تلف قبل تمام القبض وكماله؛ بل وقبل التمكن من القبض؛ لأن البائع عليه تمام التربية من سقي الثمر، حتي لو ترك ذلك، لكان مفرطا، ولو فرض أن البائع فعل ما يقدر عليه من التخلية؛ فالمشتري إنما /عليه أن يقبضه على الوجه المعروف المعتاد‏.‏ فقد وجد التسليم دون تمام التسلم‏.‏ وذلك أحد طرفي القبض‏.‏ ولم يقدر المشتري إلا على ذلك‏.‏ وإنما على المشتري أن يقبض المبيع على الوجه المعروف المعتاد الذي اقتضاه العقد، سواء كان القبض مستعقبا للعقد، أو مستأخرًا‏.‏ وسواء كان جملة، أو شيئًا فشيئا‏.‏

ونحن نطرد هذا الأصل في جميع العقود، فليس من شرط القبض أن يستعقب العقد؛ بل القبض يجب وقوعه على حسب ما اقتضاه العقد، لفظا، وعرفا؛ ولهذا يجوز استثناء بعض منفعة المبيع مدة معينة، وإن تأخر بها القبض على الصحيح، كما يجوز بيع العين المؤجرة، ويجوز بيع الشجر، واستثناء ثمره للبائع، وإن تأخر معه كمال القبض‏.‏ ويجوز عقد الإجارة لمدة لا تلي العقد‏.‏

وسر ذلك أن القبض هو موجب العقد، فيجب في ذلك ما أوجبه العاقدان بحسب قصدهما الذي يظهر بلفظهما وعرفهما؛ ولهذا قلنا‏:‏ إن شرطا تعجيل القطع جاز إذا لم يكن فيه فساد يحظره الشرع، فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا‏.‏ وإن أطلقا، فالعرف تأخير الجذاذ والحصاد إلى كمال الصلاح‏.‏

وأما استدلالهم بأن القبض هو التخلية، فالقبض مرجعه إلى عرف الناس، حيث لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع‏.‏ وقبض ثمر الشجر /لابد فيه من الخدمة والتخلية المستمرة إلى كمال الصلاح؛ بخلاف قبض مجرد الأصول‏.‏ وتخلية كل شيء بحسبه‏.‏ ودليل ذلك المنافع في العين المؤجرة‏.‏

وأما استدلالهم بجواز التصرف فيه بالبيع‏.‏ فعن أحمد في هذه المسألة روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يجوز بيعه ما دام مضمونا على البائع؛ لأنه بيع ما لم يقبض، فلا يجوز‏.‏ وعلى هذا يمنع الحكم في الأصل‏.‏

والرواية الثانية‏:‏ يجوز التصرف‏.‏ وعلى هذه الرواية، فذلك بمنزلة منافع الإجارة بأنها لو تلفت قبل الاستيفاء، كانت من ضمان المؤجر بالاتفاق، ومع هذا، فيجوز التصرف فيها قبل القبض؛ وذلك لأنه في الموضعين حصل الإقباض الممكن، فجاز التصرف فيه باعتبار التمكن، ولم يدخل في الضمان؛ لانتفاء كماله وتمامه الذي به يقدر المشتري والمستأجر على الاستيفاء، وعلى هذا فعندنا لا ملازمة بين جواز التصرف والضمان؛ بل يجوز التصرف بلا ضمان كما هنا‏.‏ وقد يحصل الضمان بلا جواز تصرف، كما في المقبوض قبضا فاسدا، كما لو اشتري قفيزا من صبرة، فقبض الصبرة كلها، وكما في الصبرة قبل نقلها على إحدى الروايتين‏.‏ اختارها الخرقي‏.‏ وقد يحصلان جميعا‏.‏ وقد لا يحصلان جميعا‏.‏

/ولنا في جواز إيجار العين المؤجرة بأكثر من أجرتها روايتان؛ لما في ذلك من ربح ما لم يضمن‏.‏ ورواية ثالثة‏:‏ إن زاد فيها عمارة جازت زيادة الأجرة، فتكون الزيادة في مقابلة الزيادة‏.‏ فالروايتان في بيع الثمار المشتراة نظير الروايتين في إيجار العين المؤجرة‏.‏ ولو قيل في الثمار‏:‏ إنما يمنع من الزيادة على الثمن، كرواية المنع في الإجارة لتوجه ذلك‏.‏

وبهذا الكلام يظهر المعني في المسألة، وأن ذلك تلف قبل التمكن من القبض المقصود بالعقد، فيكون مضمونا على البائع، كتلف المنافع قبل التمكن من قبضها؛ وذلك لأن التخلية ليست مقصودة لذاتها، وإنما مقصودها تمكن المشتري من قبض المبيع، والثمر على الشجر ليس بمحرز ولا مقبوض؛ ولهذا لا قطع فيه‏.‏ ولا المقصود بالعقد كونه على الشجر؛ وإنما المقصود حصاده وجذاذه؛ ولهذا وجب على البائع ما به يتمكن من جذاذه وسقيه، والأجزاء الحادثة بعد البيع داخلة فيه، وإن كانت معدومة، كما تدخل المنافع في الإجارة، وإن كانت معدومة‏.‏ فكيف يكون المعدوم مقبوضًا قبضًا مستقرًا موجبا لانتقال الضمان‏؟‏‏!‏